الدعوة
الدعوة الصامتة :
الدعوة الصامتة، يمكن أن تكون أكبر داعيةٍ إلى الله، ويمكن أن تفعل فعلاً ما فعله أحد وأنت صامت، وأنت مطبقٌ شفتيك، لأن لغة العمل أبلغ من لغة القول، ولأن الناس يتعلَّمون بعيونهم ولا يتعلَّمون بآذانهم، لأن الناس محتاجون إلى أن يروا مسلماً متحرِّكاً يعيش معهم، يتأثَّر كما يتأثَّرون، لكنه انتصر على نفسه كما لم ينتصروا، يريدون أناساً يقطفون ثمار هذا الدين ولا يتحدثون عنه، الناس يريدون مجتمعاً إسلامياً فيه الصدق، والأمانة، والعفاف، والرحمة، واللطف، لن تتوسع دوائر الحق إلا بالتطبيق العملي، وشتَّان بين أن تقول: مئة ألف، أو مليون، أو ألف مليون، بين أن تلفظها وبين أن تملكها، شتان بين أن تملك خارطة قصرٍ منيف، وبين أن تسكن هذا القصر، بين أن تملك صورة سيارةٍ فارهة، وبين أن تركب هذه السيارة، فرقٌ كبير وبونٌ شاسع بين القول والعمل.
خصائص الدعوة الصامتة :
1 ـ الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالأقوال :
هذه الدعوة إلى الله، ما خصائصها ؟ وما مزاياها ؟ بادئ ذي بدء حال واحدٍ في ألف ؛ إنسان مطبق، مخلص، موصول، حال واحدٍ في ألف أبلغ من قول ألفٍ في واحد، أول مزايا الدعوة الصامتة: أن الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالأقوال، فكلٌ منَّا يستطيع أن ينمِّق الكلام، وأن يُدَبِّج المقال، وأن يحسن الحديث، وأن يتفوَّه بما لا يعتقد، وأن يفعل ما لا يقول، وهذه مشكلة المشكلات، وهذه معضلة المعضلات أن نقول ما لا نعتقد، وأن نفعل ما لا نقول، أيُّ إنسانٍ أوتي ذكاءً أو ثقافةً بإمكانه أن يتكلم كلاماً مقنعاً، ولكن الذي يهز ضمائرنا، ويثير حماسنا، ويشدُّنا إلى الدين أن نرى رجلاً يفعل ما يقول، ويقول ما يعتقد، نريد أن نرى مسلماً متحرِّكاً، كما أن بعض العلماء قال: القرآن كونٌ ناطق، والكون قرآنٌ صامت، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي. يمشي بين الناس.
النبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية، أمر أصحابه أن يتحللوا وأن يحلقوا، لكن ما الذي حصل ؟ حينما خرج وتحلل وحلق ونحر تابعه أصحابه، هذه نقطة دقيقة جداً، حينما كان مع أصحابه في سفر، وأرادوا أن يعالجوا شاةً ليأكلوها، قال أحدهم: عليَّ ذبحها، وقال الثاني: عليّ سلخها، وقال الثالث: عليّ طبخها، وقال عليه الصلاة والسلام: عليَّ جمع الحطب، قالوا: نكفيك هذا يا رسول الله، قال: أعلم أنكم تكفونني ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، هذا الموقف أبلغ ألف مرة من مئة ألف محاضرةٍ في التواضع، موقف؛ علَّمهم بأحواله، قام وجمع الحطب، حينما كانوا في معركة بدر، وكانت الرواحل قليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((كل ثلاثةٍ على راحلة وأنا وعليٌ وأبو لبابة على راحلة ))
[ أحمد عن ابن مسعود ]
ركب النبي الناقة في نوبته، فلما انتهت نوبته وجاء دوره في المشي، فتوسل إليه صاحباه أن يبقى راكباً، فقال عليه الصلاة والسلام:
((ما أنتما بأقوى مني على السير ـ كان قوياً صلى الله عليه وسلم ـ ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر ))
[ أحمد عن ابن مسعود ]
هذا تعليمٌ بالأحوال لا بالأقوال، والله الذي لا إله إلا هو، لو أن كل مسلمٍ ولو لم يكن داعيةً، ولو لم يكن محصلاً للعلم الشرعي الذي ينبغي أن يحصله الدعاة، ولو لم يكن طليق اللسان، يكفي أن يكون أميناً وصادقاً ووديعاً ورحيماً وليِّناً ليفعل فيمن حوله فعل السحر. نحن بحاجةٍ إلى إنسانٍ يفعل أكثر مما نحن محتاجون إلى إنسانٍ يقول.
هذه الدعوة الصامتة أول مزاياها: أن الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالأقوال.
2 ـ من يدعو الناس بأحواله كل من حوله يفهم عليه من دون تردد :
هناك خاصةٌ ثانية: المتكلم إما أن يرفع مستوى كلامه، فيأتي بالأدلة الدقيقة والعميقة، إما أن يرفع مستوى لغته، وإما أن يحلِّق في عالم الأدب، وإما أن يأتي بأحدث ما في العلم، مَن يتابعه ؟ قلةٌ قليلة، وإما أن يضعِّف المستوى، ويتكلم بالعامية ليفهم الكثرة الكثيرة، لكن الخواص ينفرون منه، فالدعوة بالأحوال يستوي جميع الناس في فهمها، مثقَّفُهم وغير مثقفِهم، العمل واضحٌ كالشمس، فأنت إن رفعت المستوى خسرت الطبقة الواسعة، وإن خفَّضت المستوى خسرت الطبقة الخاصة، أما إذا كنت أميناً، أما إذا كنت مستقيماً، أما إذا كنت صادقاً، أما إذا كنت رحيماً، أما إذا كنت أباً كاملاً، أو زوجاً كاملاً، فإن كل من حولك يفهم عليك، لأن الحركة لا تحتاج إلى ثقافة، لكنها تحتاج إلى رؤية، هذه ميزةٌ ثانية أن الذي يدعو الناس بأحواله كل من حوله يفهم عليه من دون تردد.
3 ـ الحدث المشاهد أثبت بكثير من الكلمة المسموعة :
خصيصةٌ ثالثة للدعوة الصامتة، قال العلماء- علماء النفس-: إن الحدث المشاهد أثبت بكثير من الكلمة المسموعة. مرةً كنا في الجامعة وكان هناك مادةٌ اسمها: الصحة النفسية فيها ثلاثمئة مرض نفسي، عرض علينا أستاذنا مشهداً متحركاً لمرضٍ اسمه الصراع، هذا المشهد الذي رأيناه متحركاً بكل دقائقه لازال في ذاكرتي دائماً، السبب أن المشاهد المتحركة أثبت في النفس من الكلمات المنطوقة، أنت حينما تشاهد حادثاً مروِّعاً، تبقى صورته في ذهنك إلى أمدٍ طويل، أما إذا قرأت مقالةً عن حوادث السير، سرعان ما تنساها، لذلك الحياة شيء، والكلمة المكتوبة شيءٌ آخر، فأنت حينما تعلِّم الناس بأحوالك. النبي عليه الصلاة والسلام رأى امرأةً تقبِّل ابنها وقد ألقمته ثديها، فالنبي عليه الصلاة والسلام - وهذا المشهد أمام أصحابه جميعاً - قال:
(( هذه المرأة أتلقي بولدها إلى النار ؟))
قالوا: معاذ الله !! أم، قال :
((لله أرحم بعبده من هذه بولدها ))
[ البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ]
هذا المشهد لا ينسى، فأنت إن علَّمت الناس بأحوالك، بمواقفك، بتواضعك، بكرمك، برحمتك، بعفوك، أنت مشهد متحرك لا ينسى هذا أبداً، أما إذا كنت فصيحاً وألقيت كلاماً بليغاً، وتفننت في عرض الفكرة، وجئت بأدلَّتها، هذا كلامٌ طيب له تأثيرٌ آني، ولكن بعد حين يبقى انطباعٌ ضبابي، والله جلسة رائعة، كلمة رائعة، فما مضمونها ؟ والله لا أذكر، أما حينما تشاهد وأنت في حالةٍ إنسانية، وأنت تعمل عملاً طيِّباً، هذا الموقف المتحرك، هذا الذي اشتركت في نقله عدة حواس هذا لا ينسى، قالوا: في التعليم كلما كثرت الحواس التي تستقبل الشيء كان أثره أبلغ، يكفي أن تكون مسلماً، يكفي أن تكون صادقاً.
حدثني أخ دخل إلى بقالية، قال له: أعندك بيضٌ طازج ؟ قال له: والله الذي عندي جئت به قبل عدة أيام، أما جاري فجاءته وجبةٌ الآن، خذ من جاري. هذا أبلغ من ألف خطبة، رأى الصدق. أعندك بيضٌ طازج ؟ قال له: لا، جاري عنده. مثل هذا البقَّال إن تكلم كلمةً في الدين تسمع لأنه عند كلمته..
أرجو المعذرة أنا لا أقلل من أهمية المتكلمين، قد يكونون أعلام الأمة، أما هؤلاء المتكلمون الذين هم أعلام الأمة فما كانوا أعلام الأمة إلا لأن واقعهم أكّد كلامهم..... فلنكن منهم او نكتفي بهذة الدعوة التي لا تقل اهمية.
سلامي...
اميرة نحراوي
Komentar
Posting Komentar
Terimakasih untuk komentar anda